العلاقات الفرنسية -الجزائرية تدخل نفق اللاعودة
تؤكد التصريحات الأخيرة لوزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو، بشأن “تجميد كامل” للعلاقات مع الجزائر، أن الأزمة الدبلوماسية بين البلدين لم تعد مجرد توتر عابر أو سوء تفاهم ظرفي، بل دخلت مرحلة الجمود الهيكلي الذي يصعب تجاوزه في المدى القريب.
هذا الموقف الفرنسي الجديد، الصادر في سياق إعلامي موحد يجمع بين إذاعة وتلفزيون وصحيفة كبرى، يحمل دلالات عميقة من حيث التوقيت والمضمون، ويعكس رغبة باريس في تحميل الجزائر مسؤولية مباشرة عن الوضع الراهن، من خلال التركيز على “القرار المفاجئ” بطرد اثني عشر موظفا دبلوماسيا فرنسيا، وما ترتب عنه من تداعيات إنسانية وإدارية.
في العمق، تندرج هذه التصريحات ضمن استراتيجية اتصالية فرنسية تهدف إلى إعادة ضبط التوازن في سردية العلاقات الثنائية، التي لطالما اتُّهِمت فيها باريس بعدم الاعتراف الكافي بماضيها الاستعماري أو بمعالجة الذاكرة المشتركة بطريقة انتقائية. ومن خلال استحضار رمزية ذكرى 8 ماي 1945، تسعى فرنسا إلى إبراز التزامها بمسار “ذاكرة الحقيقة” الذي تم الإعلان عنه منذ 2017، وكأنها بذلك توجه رسالة إلى الرأي العام الجزائري والدولي مفادها أنها لا تزال منفتحة على المصالحة التاريخية، لكنها في الوقت نفسه لن تتساهل مع ما تعتبره خطوات عدائية أو أحادية الجانب من قبل الجزائر.
ومن الملاحظ أن الموقف الفرنسي لا يقتصر على المستوى الحكومي، بل يحظى بتزكية ضمنية من بعض الفاعلين السياسيين الفرنسيين، خصوصا من نواب اليسار والوسط الذين زاروا الجزائر في سياق رمزي، وهو ما يمكن قراءته كمحاولة فرنسية لتطويق الأزمة عبر أدوات غير دبلوماسية، مع الاحتفاظ بضغط سياسي متواصل في الخلفية. كما أن حديث بارو عن “تقييد حركة شخصيات بارزة” بداية العام الجاري، وما أثاره من “استياء”، يبرز أن باريس بدأت منذ فترة في استخدام أدوات الضغط السياسي والإداري، لكنها تفعل ذلك بمرونة تكتيكية تمنحها هامش المناورة دون التصعيد العلني الفوري.
اللافت في التصريحات أيضا هو تأكيد باريس على مبدأ “عدم الإعلان المسبق” عن العقوبات أو الإجراءات المحتملة، وهو ما يحمل دلالة مزدوجة: من جهة، تعكس هذه الصيغة تقليدا دبلوماسيا راسخا يفيد بالتحرك ضمن منطق الرد الهادئ، ومن جهة أخرى، توحي بإمكانية استخدام مفاجئ لأدوات الضغط إن استمرت الجزائر في التصعيد أو تجاهلت مساعي التهدئة غير المعلنة.
وعليه، فإن التصعيد اللغوي الفرنسي في هذا التوقيت، وبلغة مباشرة غير معتادة في الخطاب الدبلوماسي تجاه الجزائر، يكشف عن بداية مرحلة جديدة في العلاقات الثنائية، تسودها الحسابات السياسية والأمنية أكثر من الرغبة في إعادة البناء. كما أن استمرار غياب السفير الفرنسي عن الجزائر، واستبعاد تحديد موعد لعودته، يؤشر إلى أن قنوات الحوار المباشر لا تزال مغلقة، وربما مرشحة لمزيد من التوتر، ما لم تبادر الجزائر بإعادة ترتيب العلاقة وفق شروط جديدة قد تكون أكثر برودة من سابقاتها.