اتساخ الأحياء والواجهات بمدينة الدار البيضاء
رغم بعض الجهود التي تركزت على ضمان نظافة جيدة لمدينة الدار البيضاء، من خلال تفويت هذا القطاع لبعض شركات النظافة الأجنبية، ودعوة السلطات المحلية الساكنة إلى صباغة الواجهات الخارجية لبناياتها من عمارات، وإقامات مشتركة، ومنازل… فإن البيضاويين ما زالوا يلاحظون أن هناك قصورا كبيرا فيما يتعلق بهذا المجال؛ إذ ما زالت الأزبال والنفايات تؤثث الفضاء البيضاوي في جل الأحياء، خاصة الشعبية منها والعشوائية، وما زالت الأوساخ والقاذورات وبقايا أعقاب السجائر، والبلاستيك، ومعلبات مختلف المنتجات الاستهلاكية، تتراكم في مختلف الشوارع والأزقة، في حين ما زالت الكثير من الواجهات الخارجية لم يتم تجديد صباغتها؛ الشيء الذي يطرح تساؤلا عميقا حول أسباب هذه الوضعية التي تمس بجمالية العاصمة الاقتصادية وتشوه صورتها الخارجية في الوقت الذي تشهد فيه المدينة إنجاز أوراش كبرى تهم بنياتها التحتية وساحاتها العمومية ووسائل النقل فيها…
اتساخ أحياء المدينة
من المعروف أنه منذ أن أسندت للمجالس الجماعية الحضرية مهمة الإشراف على قطاع النظافة بمقتضى ظهير 30 شتنبر 1976، ومدينة الدار البيضاء تعاني من اتساخ أحيائها وشوارعها نظرا لعدة عوامل، من أهمها حجم ساكنة المدينة الذي يتزايد باستمرار بسبب الهجرة والتوسع العمراني، وكون المدينة ذات طابع صناعي وتجاري، الشيء الذي جعلها تستقطب عدة مصانع ومعامل تفرز يوميا أطنانا من النفايات الملوثة، إلى جانب ما يفرزه الميناء من نفايات وقاذورات، بالإضافة إلى البقايا التي تخلفها أسواق الجملة، كسوق السمك، وسوق الخضر، وسوق الدجاج، والمجزرة البلدية، وكذا الأزبال التي تتراكم قرب محطات الطرق، ونفايات المراكز التجارية الكبرى العصرية والتقليدية، ونفايات المؤسسات الفندقية الكبرى، إلى جانب نفايات المستشفيات الكبرى والمصحات الخصوصية.
كما أن حظيرة السيارات التي تتحرك في المجال البيضاوي تخلف يوميا العديد من القاذورات الملوثة من أدخنة، وسوائل، وما يرمي به سائقو السيارات من أعقاب السجائر، والمناديل الورقية وغيرها. لكن إلى جانب هذه العوامل، فإن السبب الرئيسي الذي فاقم هذا الوضع هو ضعف خبرة المسيرين الجماعيين فيما يتعلق بنظافة مدينة في حجم الدار البيضاء، وطرقهم التقليدية في التعامل مع هذا الجانب، بالإضافة إلى ضعف آليات اشتغال المصالح التابعة لهذه الجماعات. ولعل ما زاد من استفحال هذا الوضع وتعقده، التقسيم الإداري الذي خضعت له المدينة وتفتيت مجالسها الجماعية، مما زاد من إضعاف قدرة هذه المجالس على مباشرة مهامها في هذا المجال.
ولعل هذا السبب هو الذي جعل السلطات المحلية تعمد إلى تفويت هذا القطاع إلى بعض شركات النظافة الأجنبية التي التزمت بمباشرة تنظيف أحياء المدينة مع الحفاظ على عمال النظافة التابعين لهذه المجالس. ورغم أنه قد لوحظ تحسن ملموس في نظافة بعض أحياء وشوارع الدار البيضاء، بعدما قامت هذه الشركات بتوزيع العديد من صناديق القمامة في مناطق وأنحاء عدة من المدينة، واستعمال آليات جديدة لجمع هذه الصناديق وتفريغها في المزابل الخاصة بذلك، فإن الأوساخ والقاذورات والنفايات بكل أشكالها ما زالت تنتشر في العديد من الأزقة والدروب والأحياء البيضاوية، خاصة في الأحياء ذات الكثافة السكانية كالمدينة القديمة، والحي الحسني، والأحياء الطرفية الأخرى، لتتراكم بشكل مريع في الأحياء العشوائية والقصديرية.
ويمكن إرجاع الأسباب الكامنة وراء هذا الوضع إلى عدم احترام بعض هذه الشركات لبعض البنود والالتزامات الواردة في كناش التحملات التي تم الاتفاق بشأنها مع المجالس البلدية التي غالبا ما تفتقد الوسائل التي تمكنها من مراقبة العمل اليومي لهذه الشركات، وإسناد هذا القطاع إلى عدة شركات تتكلف كل واحدة منها بأحياء معينة من المدينة، بحيث كلفت شركة “سيتا” بنظافة الأحياء التابعة لمقاطعة سيدي بليوط، في حين كلفت شركة أخرى بنظافة أحياء مقاطعة الحي الحسني، وعين الشق، مما خلق فروقا كبيرة في نظافة أحياء المدينة.
لكن بالإضافة إلى هذه العوامل المرتبطة بشركات التنظيف، فإن السبب الجوهري في اتساخ المدينة يكمن بالأساس في السلوك المتخلف لشرائح واسعة من سكان هذه المدينة. فساكن هذه المدينة ما زال لم يتعود بعد على احترام المجالات المشتركة والعمومية من شوارع، وأحياء، وأزقة، ودروب، وساحات عمومية، وحدائق عمومية… فهذه الفضاءات لا تمثل في نظره سوى مجالات خارجية يمكنه أن يتخلص فيها من كل نفاياته المنزلية وأزباله الشخصية، وفضلاته الطبيعية. فهو لا يجد أية غضاضة في الرمي بعقب سيجارة أو بقايا علب منتوجات استهلاكية، أو البصق، أو التبول… معتبرا أن ذلك ليس من اختصاصه ولا يهمه في شيء، بل غالبا ما لا يكلف نفسه حتى عناء رمي نفاياته في صندوق القمامة أو حتى التفكير في البحث عن أقرب صندوق لرمي أزباله الشخصية. ولعل هذا السلوك غير المتمدن عادة ما يساهم في انتشار الأوساخ في كل مكان.
كما أن هناك سلوكا خاصا بالبيضاويات، يتمثل في رمي كل ما يكنسن من أزبال ونفايات في الشارع العام، فهن يكتفين فقط بإبعادها عن بيوتهن ومجالهن الشخصي دون إيلاء أي اهتمام لنظافة الشارع أو الحي أو الدرب المجاور، بالإضافة إلى العادة السيئة التي درجن عليها، وتتعلق برمي الأزبال ونفض الزرابي والأفرشة من فوق الأسطح والبلكونات دون اكتراث للمارة، أو اهتمام بنظافة الحي أو الدرب، والرمي بما تبقى من ماء مستعمل أمام باب المنزل بعد تنظيف داخله.
بالإضافة إلى ذلك، فالأجهزة الإدارية المكلفة بالسهر على نظافة المدينة غالبا ما لا تقوم بدورها في زجر أية مخالفة تمس بنظافة المدينة، بحيث لا تحرر محاضر بالنسبة لمن يرمون بالنفايات في الشارع العام، ولا تتم متابعتهم في غياب ترسانة قانونية بلدية خاصة بهذا القطاع.
كما أن مما يزيد من تفاقم هذه الوضعية، افتقاد المدينة لمراحيض خصوصية أو عمومية، بعدما تم الإجهاز أو إقفال تلك المراحيض التي خلفتها سلطات الحماية، كتلك التي كانت متواجدة في ساحة وادي المخازن، أو في شارع الجيش الملكي، أو قرب السوق المركزي بشارع محمد الخامس، وبعدما تم هدم مراحيض المعرض الدولي، وكذا المراحيض العمومية التي كانت متواجدة بدرب العميان ببوشنتوف؛ إذ إن انعدام هذه المراحيض، وعدم اهتمام مجلس المدينة ببنائها أو الترخيص لبعض الخواص بفتح بعضها، أدى إلى تحويل كل الأماكن والجدران، والفراغات، والمآرب… إلى “مبولات جماعية”، بما في ذلك الساحات المتواجدة بوسط المدينة، نظرا لغياب أية مراقبة، والتواجد المكثف للحانات بها.
فقد أصبح من المألوف رؤية بعض الأشخاص وهم يتبولون بشكل علني أو شبه علني في الساحات العمومية وعلى مرأى من الجميع دون إحساس بأي حرج أو إزعاج، بل وصل الأمر إلى أن تتحول بعض جنبات وجدران أقدم محكمة ابتدائية تتواجد بوسط المدينة، بما تمثله من تراث معماري أشرف على بنائه أول مقيم عام بالمغرب، الذي يطل تمثاله من فناء القنصلية الفرنسية المحاذية لها، إلى “مبولة عمومية” وفضاء لرمي الأزبال والقاذورات، وذلك أمام أنظار السلطات المحلية والأجهزة القضائية التي لا تحرك ساكنا أمام هذه الظاهرة المخلة بالحياء العام والمؤثرة على جمالية البنيات العمومية والماسة بهيبة القضاء.
اتساخ واجهات المدينة
رغم التسمية التي تتميز بها مدينة الدار البيضاء، فليس لها من هذا اللون إلا الاسم؛ إذ يكفي أن يجول المرء بنظره على واجهات البنايات العمومية والعمارات والشقق والإقامات المشتركة، أو إلقاء نظرة على جدران البيوت والمنازل، سواء بالأحياء العصرية أو الشعبية، أو على مقرات الشركات والمعامل والمحلات، ليلاحظ تمايز ألوان هذه البنايات، حيث إن كل بناية تتميز بلون خاص بعدما تقاعست السلطات المحلية عن فرض لون موحد لواجهة بنايات المدينة كان يتمثل في اللون الأبيض المشوب باللون الأزرق الذي كان يحافظ للمدينة، على غرار المدن الساحلية الأخرى، على طابعها وهويتها كمدينة ساحلية ومنفتحة.
أما فيما يتعلق بواجهة البنايات فغالبا ما يلاحظ المرء الاختلاف الكبير بين ألوانها، فهناك بنايات مصبوغة، تجاورها بنايات أخرى فقدت لونها بسبب التلوث وهطول الأمطار والغبار، والدخان المنبعث من محركات السيارات؛ فباستثناء بعض البنايات المتواجدة ببعض الشوارع الرئيسية التي يتم الاهتمام بصباغتها وتبييضها، هناك العديد من واجهات هذه البنايات لم تتم صباغتها أو تبييضها لمدة طويلة، نظرا لعدم التنسيق بين السلطات المحلية بشأن هذا الموضوع وعدم إجبار السكان على هذا الأمر، سواء من خلال فرض ذعائر أو تحرير مخالفات، مع أن الحفاظ على جمالية المدينة يدخل ضمن اختصاصاتها الادارية.
ولعل هذا التقاعس من طرفها هو الذي زاد من تفاقم هذه الظاهرة، بعد لجوء العديد من الشباب البيضاوي في الآونة الأخيرة إلى تلطيخ الجدران والواجهات الأمامية بكتابات وشعارات رياضية وغيرها، من خلال رش أصباغ عادة ما يصعب محوها، مما يذكر بجدران أحياء هارليم والبرونكس، ونيو جرسي، وباقي الغيتوهات الأمريكية والبريطانية والفرنسية الأخرى.
من هنا أصبح من الضروري على مجلس المدينة ورؤساء المقاطعات الحضرية وضع تصور جديد يعطي الأولوية القصوى لنظافة المدينة، من خلال انتقاء شركة نظافة أجنبية واحدة تلتزم بكناش تحملات بشروط واضحة وشفافة تضمن للمدينة نظافة لائقة وجيدة، وبلورة ترسانة قانونية بلدية تقوم بتقنين هذا القطاع وزجر أية مخالفة تمس بنظافة المدينة من خلال فرض غرامات أو عقوبات مختلفة على كل من يضبط متلبسا برمي الأزبال أو تلويث الشارع العام بالقاذورات أو الفضلات أو البقايا، وإلزامه بجمعها في المرة الأولى، وإجباره على كنس الشارع أو الدرب أو الزقاق الذي ضبط فيه متلبسا، لتقديمه للمحاكمة في المرة الثالثة.
وبهذا الصدد، يمكن للشرطة الإدارية أن تلعب دورا أساسيا في الإشراف والمراقبة وضبط هذه العملية. كما يمكن للمقدمين والشيوخ أن يساهموا في هذه العملية من خلال رفع تقارير عن كل الأشخاص الذين يقومون برمي النفايات أو الأزبال. بالإضافة إلى ذلك، وفي انتظار إنجاز صفقة مشروع 100 مرحاض عمومي التي وعد بها مجلس المدينة، فقد حان الوقت لكي يقوم هذا المجلس، قبل انتهاء ولايته، بإعطاء التراخيص الضرورية لبعض البيضاويين والبيضاويات من ذوي الدخل المحدود لفتح مراحيض خصوصية في مناطق وأنحاء تحددها السلطات المختصة مقابل واجب شهري يؤدى للمجلس، وذلك على غرار المسطرة التي يتم بها فتح الأكشاك، أو مخادع الهاتف. هذا الإجراء إذا ما تم تنفيذه، سيساهم ليس فقط في ضمان نظافة المدينة وأحيائها، بل سيوفر آلاف فرص الشغل لسكان المدينة.
كما أنه قد حان الوقت لإشراك المجتمع المدني البيضاوي في هذا المجال، من خلال تسهيل خلق جمعيات الدروب والأحياء التي كانت تتكلف في السابق بالسهر على نظافة هذه الأحياء قبل أن تعمد السلطة إلى إجهاض العديد منها بدافع أمني، حيث يمكن لمجلس المدينة أن يعقد شراكات مع هذه الجمعيات ودعمها ماليا ولوجستيكيا للقيام بهذه المهمة داخل الأحياء والدروب، وذلك من خلال خلق روح التنافس بينها بتخصيص جوائز مالية سنوية لأنظف حي على صعيد ولاية الدار البيضاء الكبرى، وأنظف درب على صعيد كل مقاطعة حضرية. ولعل هذا ما بدأت تقوم به بعض الجمعيات في بعض الأحياء الشعبية بالدار البيضاء.
أما فيما يخص صباغة وتبييض الواجهة الخارجية لبنايات المدينة، فإنه من الممكن، بدل أن يقوم كل شخص ذاتي أو معنوي بصباغة هذه الواجهات بمفرده، أن يتكلف مجلس المدينة بذلك؛ حيث يقوم بإسناد هذه المهمة لشركات متخصصة تتكلف بصباغة وتبييض بنايات المدينة وواجهاتها الخارجية بشكل منتظم ودوري، بينما يشرف المجلس على مراقبة هذه العملية، واتخاذ التدابير اللازمة في حالة تسجيل أي نقص أو تقاعس أو تشويه من طرف الشركات المكلفة. أما الموارد المخصصة لهذا العملية، فيمكن أن تستخلص من ضريبة النظافة المفروضة على الساكنة البيضاوية.
وبهذا يمكن أن تضمن لمدينة الدار البيضاء شروط نظافة ملائمة تهم ليس فقط أرضية شوارعها ودروبها وأزقتها، بل أيضا واجهات أسطح بناياتها السكنية والإدارية والخدماتية؛ إذ إن كل الأوراش الكبرى التي تعرفها المدينة من بناء الأنفاق، وتوسيع الشوارع، وتبليط الأزقة وتزفيتها… لا يمكن أن تلمس وتتجلى للعيان إلا من خلال صباغة عامة لمختلف الواجهات الخارجية للبنايات العمومية والسكنية، ومن خلال إضاءة عمومية قوية لمختلف الشوارع عبر أعمدة إضاءة أفقية بدل هذه الإضاءة العمودية التي تنير، نظرا لعلوها، سماء الفضاء البيضاوي أكثر ما تنير أرضه.